حسين سجواني، رئيس مجلس الإدارة، داماك العقارية

أنا متأكد من أن جميعنا قد انتابنا هذا الشعور لدى قيادتنا للسيارة في أرجاء دبي. فنمرُّ بمنعطف عند زاوية الشارع لنجد طريقاً أو جسراً أو مبنىً لم نلاحظه من قبل، وكأنه قد بُني للتو بين ليلة وضحاها. وأتساءل أحياناً كيف يمكن لأجهزة الملاحة لدينا مواكبة وتيرة التغيير في هذه المدينة.

لا شك أن الأرقام مذهلة. ففي عام 2015، بلغ إجمالي تعداد المتواجدين في دبي خلال النهار 3,5 مليون نسمة. وكان معظمهم (2,4 مليون) من المقيمين. ولكن كان هناك أيضاً عدد كبير (أكثر من 1,1 مليون) من المقيمين المؤقتين من السياح، والزوار من العائلات والمسافرين بغرض الأعمال التجارية.

وخلال العقد الماضي، تضاعف عدد سكان دبي تقريباً. وفي كل أسبوع خلال السنوات العشر الماضية، قرر حوالي 3 آلاف شخص الانتقال إلى الإمارة من أجل تحقيق مستوى معيشة أفضل.

عندما نُلقي نظرة على مناطق مختلفة من العالم مثل آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تصبح الأرقام محيّرة، إذ ينتقل حوالي مليون شخص كل أسبوع من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، دون نية إلى العودة، ما يعادل إنشاء 20 مدينة جديدة مثل دبي كل عام.

ويقول خبراء الدراسات السكانية إن 2008 كان عاماً تجاوزت فيه نسبة سكان المناطق الحضرية سكان الريف، وذلك لأول مرة في تاريخ البشرية، إذ بات أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في المدن.

فقبل ثلاثين عاماً فقط، كانت هذه النسبة تشكل حوالي 35 في المئة. وبعد ثلاثين سنة من الآن، ستصبح النسبة 70 في المئة. إنه تدفق بشري لا يمكن إيقافه نحو المدن. ولهذا السبب تواجه أجهزة الملاحة صعوبات، أو بالأحرى لهذا السبب نحتاج إليها في المقام الأول.

ولهذا السبب أيضاً يُعَد عمل المطورين العقاريين على غرار داماك العقارية، أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لعملية التحضّر. وتتمثل مهمتنا في المساعدة على بناء المدن التي تلبي احتياجات الأعداد الهائلة من السكان الذين ارتأوا أن حياتهم ستكون أفضل في المدن. ولطالما كانت المدن في صميم التقدم التاريخي، فقد نمت اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية لتصبحا بهذا التأثير العالمي، وذلك لأنه كانت لديهما مراكز ثقافية وتجارية نابضة بالحياة، هما أثينا وروما.

وتزامن العصر الذهبي للإسلام مع تطور بغداد إلى أكبر وأغنى مدينة معروفة في العالم حتى ذلك الحين. ووصلت الإمبراطورية العثمانية إلى أوج مكانتها فقط بعد أن تحولت القسطنطينية لتصبح إسطنبول.

وفي وقت أقرب إلى عصرنا الحالي، كانت مدينتا لندن ونيويورك ضمن أهم وأعظم الإمبراطوريات في شمال الأطلسي، وهي البريطانية والأمريكية، اللتين هيمنتا على العالم في القرنين الـ 19 و20 على التوالي.

ومن يعارض فكرة أن الإمبراطوريات الجديدة التي تنطلق من مدن رئيسية لن تنمو في هذا القرن؟ إذ أصبحت كل من بكين وشنغهاي تلعبان دور العواصم السياسية والتجارية الرئيسية في آسيا، باعتبارهما المركزين الحضريين الرئيسيين لدولة تتوجه لتصبح الاقتصاد الأقوى في العالم، وهي الصين.

ونحن في دولة الإمارات العربية المتحدة ندرك أهمية المدن في عملية التنمية. ويوشك أكبر مركزان حضريان في الدولة، دبي وأبوظبي، على أن يغطي مداهما الحضري المسافة التي تبلغ حوالي 130 كيلومتراً، وهي المسافة التي تفصلهما عن بعضهما البعض.

ولا نستبعد أنه في وقت ما في المستقبل غير البعيد أن تنمو المدينتين وتلتقيان في الوسط ليشكلا المحرك الحضري الذي سيستقطب، اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، الطَموحين من جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.

فينتقل الناس إلى المدن لعدد من الأسباب هي: قسوة الحياة الريفية وعدم استقرارها، والرغبة في اللحاق بأفراد العائلة والأصدقاء الذين قد قاموا بهذه الخطوة، والقناعة بأن الحياة ستكون أسهل بالنسبة لهم ولأطفالهم. شوارع جميع المدن معبدة بالذهب، وليس لندن فقط، كما يعتقد الكثيرون.

وأياً كانت دوافعهم والطريقة التي يتبعونها لتحقيق مبتغاهم، فإن المنتقلين حديثاً إلى المدن يمتلكون قاسماً مشتركاً، هو أن جميعهم يريدون ويتوقعون مستوى معيشة في منازلهم الجديدة أفضل مما يتوافر لهم في القرى الريفية التي تركوها وراءهم. ويتمثل هذا في الحصول على منزل وتعليم ورعاية صحية وخيارات تسوق واتصالات أفضل. وبعبارة أخرى: البنية التحتية، الملموسة وغير الملموسة.

وفي أجزاء كثيرة من آسيا، يقوم الفلاحون مع أسرهم بالانتقال من الأراضي الزراعية إلى المدن الحضرية متوسطة الفئة بمعدل جيل واحد فقط.

وتمثل هذه الحقيقة البسيطة تحدياً لصانعي السياسات، والمستثمرين الاستراتيجيين، والمطورين مثل داماك الذين هم في قلب ديناميكية التحضر: كيف سيتم توفير وتمويل المرافق والخدمات التي يتطلع إليها سكان المدن الجدد؟

ومن المهم أيضاً توفير بيئة حضرية تكون مناسبة للناس على الصعيد المادي، والتي توفر لهم القيمة التي تتلاءم مع تطلعاتهم. إن الانتقال من القرية إلى المدينة سيكون مُجدياً فقط عندما يتوفر لدى النازحين الموارد المادية التي تعينهم على الدفع لتحقيق مستوى حياة أفضل. وفي داماك، نراقب عن كثب القدرة التنافسية لمنتجاتنا، ونقيس مدى الرضا الذي نناله من الدراسات والبحوث، التي تظهر أن دبي، على سبيل المثال، تقوم بتوفير قيمة أفضل مقابل المال المدفوع مقارنة بالعديد من المدن الأخرى.

ووفقاً لتقرير نايت فرانك للثروة لعام 2017، حلت دبي في مرتبة متقدمة في ترتيب المدن الـ 20 من حيث القيمة في العالم. وإذا كنت تمتلك مليون دولار أمريكي، فإنها ستشتري لك في دبي أكثر بكثير من المدن الأخرى مثل هونغ كونغ وموناكو.

وللحكومات بالطبع دور حاسم في رسم خارطة الطريق الأساسية للتنمية الحضرية. ولكن القطاع الخاص يقوم على نحو متزايد بتحمل عبء كبير من خلال توفير التمويل لبناء البنية التحتية والخدمات الحضرية للمنتقلين الجدد إلى المدن، فضلاً عن بنائها على أرض الواقع.

وقد نشأت فئة جديدة من المستثمرين الذين يرون العالم ليس كمجموعة متباينة من الاقتصادات الوطنية، ولكن كمجموعة من الاقتصادات الحضرية التي تتوزع استراتيجياً في جميع أنحاء العالم. وتشمل المدن العالمية رفيعة المستوى، من الشرق إلى الغرب؛ طوكيو، وشنغهاي، وسنغافورة، ومومباي، ولندن، وساو باولو، ونيويورك، ولوس أنجلوس، ودبي الطموحة ..

وتضم الفئة الثانية عدداً من المدن الناهضة مثل جاكرتا، وإسطنبول، وفرانكفورت، ولاغوس، وشيكاغو، وسان فرانسيسكو، وبوينس آيرس، وغيرها.

ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن الاقتصاد المحلي لمدينة تتسم بالديناميكية غالباً ما ينمو بمعدل أسرع بكثير من متوسط النمو على مستوى البلاد. وتنمو جاكرتا ولاغوس بنحو ضعف اقتصادات إندونيسيا ونيجيريا على سبيل المثال.

وهذا ما يطرب مسامع المحللين الماليين في الحقيقة، الذين يتوجب عليهم تبرير كل دولار ينفقونه في الاستثمار من قبل شركات الأسهم الخاصة أو صناديق البنية التحتية، ما يعني أن بإمكانهم التركيز على النمو السريع من خلال البحث عن الفرص الاستثمارية، في البناء والعقارات والتعليم والرعاية الصحية والتجزئة والترفيه، أو الاتصالات المتنقلة وخدمات الإنترنت، وهي المجالات التي تركز عليها المدن.

وليس من قبيل الصدفة أن اثنين من أسرع الشركات نمواً في العالم، أمازون وأوبر، قد تم إنشاؤهما خصيصاً لخدمة الجماهير الحضرية الجديدة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، شهدنا نمواً في قطاعات مثل البناء والعقارات، بالإضافة إلى الرعاية الصحية والتعليم، على مدى العقد الماضي. ويعزى ذلك مباشرة إلى ديناميكيات التحضّر.

وفي المرة القادمة، فكروا ملياً قبل إلقاء اللوم على أجهزة الملاحة لإعطائكم إرشادات خاطئة. فنحن جزء صغير جداً من حركة البشر الهائلة في تاريخ الإنسانية.

شارك: